فصل: تفسير الآية رقم (64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (64):

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذلك} أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم، وأصل التولي الإعراض المحسوس ثم استعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول، ويفهم من الآية أنهم امتثلوا الأمر ثم تركوه.
{فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ الخاسرين} الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها، أو الفضل والرحمة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدراكهم لمدته، فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازًا باعتبار الأسلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة، والخسران ذهاب رأس المال أو نقصه، والمراد لكنتم مغبونين هالكين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة، وكلمة لولا إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وتقدم الكلام عليها، وحرف النفي والاسم الواقع بعدها عند سيبويه مبتدأ خبره محذوف وجوبًا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده، والتقدير ولولا فضل الله ورحمته حاصلان، ولا يجوز أن يكون الجواب خبرًا لكونه في الأغلب خاليًا عن العائد إلى المبتدأ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لولا ثبت فضل الله تعالى إلخ، و{لَكُنتُم} جواب لولا ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبًا، وقيل: إنه لازم إلا في الضرورة كقوله:
لولال الحياء ولولا الدين عبتكم ** ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى

وجاء في كلامهم بعد اللام قد، كقوله:
لولا الأمير ولولا خوف طاعته ** لقد شربت وما أحلى من العسل

وقد جاء أيضًا حذف اللام وإبقاء قد نحو لولا زيد قد أكرمتك ولم يجيء في القرآن مثبتًا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] جواب لولا قدم عليها.
هذا ومن باب الإشارة والتأويل في الآية: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال والصفات {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ طُورِ} الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها، أو أشار سبحانه بالطور إلى موسى القلب، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد وقلنا {خُذُواْ} أي اقبلوا {مَا ءاتيناكم} [البقرة: 63] من كتاب العقل الفرقاني بجد، وَعُوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم باقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله تعالى بامهاله وحكمه بافضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة.
إلى الله يدعى بالبراهين من أبى ** فإن لم يجب بادته بيض الصوارم

.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت} اللام واقعة في جواب قسم مقدر، وعَلِمَ عنا كعرف فلذلك تعدت إلى واحد، وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين، وقدر بعضهم مضافًا أي اعتداء الذين، وقيل: أحكامهم، و{مّنكُمْ} في موضع الحال، و{السبت} اسم لليوم المعروف وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله، وقيل: من السبوت وهو الراحة والدعة. والمراد به هنا اليوم والكلام على حذف مضاف أي في حكم السبت لأن الاعتداء والتجاوز لم يقع في اليوم بل وقع في حكمه بناء على ما حكي أن موسى عليه السلام أراد أن يجعل يومًا خالصًا للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه وقالوا: نجعله يوم السبت لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئًا فأوحى الله تعالى إليه أن دعهم وما اختاروا ثم امتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان فلما كان زمن داود عليه السلام اعتدوا وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أيلة. وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حظر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت فحفروا حياضًا وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد، وروي أنهم فعلوا ذلك زمانًا فلم ينزل عليهم عقوبة فاستبشروا وقالوا: قد أحل لنا العمل في السبت فاصطادوا فيه علانية وباعوا في الأسواق، وعلى هذا يصح جعل اليوم ظرفًا للاعتداء، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، وقيل: المراد بالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وليس عنى اليوم فحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف إذ يؤول المعنى إلى أنهم اعتدوا في التعظيم وهتكوا الحرمة الواجبة عليهم. وقد ذكر بعضهم أن تسمية العرب للأيام بهذه الأسماء المشهورة حدثت بعد عيسى عليه السلام وأن أسماءها قبل غير ذلك وهي التي في قوله:
أؤمل أن أعيش وأن يومي ** بأول أو بأهون أو جبار

أو التالي دبار فإن أفته ** فمونس أو عروبة أو شبار

واستدل بهذه الآية على تحريم الحيل في الأمور التي لم تشرع كالربا وإلى ذلك ذهب الإمام مالك فلا تجوز عنده بحال، قال الكواشي: وجوزها أكثرهم ما لم يكن فيها إبطال حق أو إحقاق باطل، وأجابوا عن التمسك بالآية بأنها ليست حيلة وإنما هي عين المنهي عنه لأنهم إنما نهوا عن أخذها ولا يخفى ما في هذا الجواب، وتحقيقه في كتب الفقه.
{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} القردة جمع قرد وهو معروف ويجمع فعل الاسم قياسًا على فعول، وقليلًا على فعلة، والخسو الصغار والذلة ويكون متعديًا ولازمًا، ومنه قولهم للكلب: اخسأ وقيل: الخسوء والخساء مصدر خسأ الكلب بَعُدَ، وبعضهم ذكر الطرد عند تفسير الخسوء كالابعاد؛ فقيل: هو لاستيفاء معناه لا لبيان المراد، وإلا لكان الخاسئ عنى الطارد، والتحقيق أنه معتبر في المفهوم إلا أنه بالمعنى المبني للمفعول، وكذلك الابعاد فالخاسئ الصاغر المبعد المطرود، وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة، وعلى ذلك جمهور المفسرين وهو الصحيح وذكر غير واحد منهم أنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن، واختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم ويرده ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟
«إن الله تعالى لم يهلك قومًا أو يعذب قومًا فيجعل لهم نسلًا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك» وروى ابن جرير عن مجاهد «أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظًا ولا تعي زجرًا» فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة كقوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ** فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدًا

و{كُونُواْ} على الأول: ليس بأمر حقيقة، لأن صيرورتهم ما ذكر ليس فيه تكسب لهم لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم، بل المراد منه سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراد من غير امتناع ولا لبث.
وعلى الثاني: يكون الأمر مجازًا عن التخلية والترك والخذلان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «اصنع ما شئت» وقد قرره العلامة في تفسير قوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بما ءاتيناهم وَلِيَتَمَتَّعُواْ} [العنكبوت: 66] والمنصوبان خبران للفعل الناقص، ويجوز أن يكون {خاسئين} حالا من الاسم، ويجوز أن يكون صفة لقردة والمراد وصفهم يالصغار عند الله تعالى دفعًا لتوهم أن يجعل مسخهم وتعجيل عذابهم في الدنيا لدفع ذنوبهم ورفع درجاتهم.
واعترض أنه لو كان صفة لها لوجب أن يقول: خاسئة لامتناع الجمع بالواو والنون في غير ذوي العلم، وأجيب بأن ذلك على تشبيههم بالعقلاء كما في {ساجدين} [الأعراف: 120] أو باعتبار أنهم كانوا عقلاء، أو بأن المسخ إنما كان بتبدل الصورة فقط، وحقيقتهم سالمة على ما روي أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم، فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول: بلى ثم تسيل دموعه على خده ولم يتعرض في الآية سخ شيء منهم خنازير وروى عن قتادة أن الشباب صاروا قردة والشيوخ صاروا خنازير وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم، وقرئ {قِرَدَةً} بفتح القاف وكسر الراء و{خاسين} بغير همز.

.تفسير الآية رقم (66):

{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
{فجعلناها نكالا} أي كينونتهم وصيرورتهم قردة أو المسخة أو العقوبة، أو الآية المدلول عليها بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} [البقرة: 65] وقيل: الضمير للقرية، وقيل: للحيتان والنكال واحد الأنكال وهي القيود ونكل به فعل به ما يعتبر به غيره، فيمتنع عن مثله {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أي لمعاصريهم ومن خلفهم وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره وروي عنه أيضًا لما بحضرتها من القرى أي أهلها وما تباعد هنها أو للآتين والماضين وهو المختار عند جماعة فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان، وما أقيمت مقام من إما تحقيرًا لهم في مقام العظمة والكبرياء أو لاعتبار الوصف فإن ما يعبر بها عن العقلاء تعظيمًا إذا أريد الوصف كقوله: «سبحان ما سخركن» وصحح كونها نكالًا للماضين أنها ذكرت في زبر الأولين فاعتبروا بها وصحت الفاء لأن جعل ذلك {نكالًا} للفريقين إنما يتحقق بعد القول والمسخ، أو لأن الفاء إنما تدل على ترتب جعل العقوبة {نكالا} على القول وتسببه عنه سواء كان على نفسه أو على الاخبار به فلا ينافي حصول الاعتبار قبل وقوع هذه الواقعة بسبب سماع هذه القصة، وقيل: اللام لام الأجل وما على حقيقتها والنكال عنى العقوبة لا العبرة والمراد بما {بَيْنَ يَدَيْهَا} ما تقدم من سائر الذنوب قبل أخذ السمك، وب {مَا خَلْفَهَا} ما بعدها، والقول بأن المراد جعلنا المسخ عقوبة لأجل ذنوبهم المتقدمة على المسخة والمتأخرة عنها يستدعي بقاءهم مكلفين بعد المسخ ولا يظهر ذلك إلا على قول مجاهد، وحمل الذنوب التي بعد المسخة على السيآت الباقية آثارها ليس بشيء كما لا يخفى، وقول أبي العالية إن المراد بـ {مَا بَيْنَ يَدَيْهَا} ما مضى من الذنوب، وب {مَا خَلْفَهَا} من يأتي بعد، والمعنى فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم؛ وعبرة لمن بعدهم منحط من القول جدًا لمزيد ما فيه من تفكيك النظم والتكلف.
{وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} الموعظة ما يذكر مما يلين القلب ثوابًا كان أو عقابًا والمراد بالمتقين ما يعم كل متق من كل أمة وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: منهم، ويحتمل أنهم اتعظوا بذلك وخافوا عن ارتكاب خلاف ما أمروا به، ويحتمل أنهم وعظ بعضهم بعضًا بهذه الواقعة، وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وجعلهم بحيث لو أهملوا وتركوا وخلوا بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية والغواشي الظلمانية لضروراتهم لهم واعتيادهم من الطفولية عليها.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فوضع الله تعالى العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة ارتكاب الشهوات، وجعل يومًا من أيام الأسبوع مخصوصًا للاجتماع على العبادة وإزالة وحشة التفرقة ودفع ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية، فوضع السبت لليهود لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم والسبت آخر الأسبوع، والأحد للنصارى لأن عالم العقل الذي إليه دعوتهم أول العوالم، ويوم الأحد أول الأسبوع، والجمعة للمسلمين لأنه يوم الجمع، والختم فهو أوفق بهم وأليق بحالهم فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلًا زال نور استعداده، وطفئ مصباح فؤاده، ومسخ كما مسخ أصحاب السبت، ومن غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده، وتمكن في طباعه، وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان حتى كأن صار طباعه طباعه، ونفسه نفسه، فليجهد المرء على حفظ إنسانيته، وتدبير صحته بشراب الأدوية الشرعية والمعاجين الحكمية، وليحث نفسه بالمواعظ الوعدية والوعيدية.
هي النفس إن تهمل تلازم خساسة ** وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج

.تفسير الآية رقم (67):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} بيان نوع من مساويهم من غير تعديد النعم وصح العطف لأن ذكر النعم سابقًا كان مستملًا على ذكر المساوي أيضًا من المخالفة للأنبياء والتكذيب لهم وغير ذلك، وقد يقال: هو على نمط ما تقدم، لأن الذبح نعمة دنيوية لرفعة التشاجر بين الفريقين، وأخروية لكونه معجزة لموسى عليه السلام. وكأن مولانا الإمام الرازي خفي عليه ذلك فقال: إنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات، وجعل النوع الثاني ما أشارت إليه هذه الآية وليس بالبعيد.
وأول القصة: قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادرأتم فِيهَا} [البقرة: 72] إلخ، وكان الظاهر أن يقال قال موسى إذ قتل قتيل تنوزع في قاتله إن الله يأمر بذبح بقرة هي كذا وكذا، وأن يضرب ببعضها ذلك القتيل ويخبر بقاتله فيكون كيت وكيت إلا أنه فك بعضها وقدم لاستقلاله بنوع من مساويهم التي قصد نعيها عليهم، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال، وترك المصارعة إلى الامتثال، ولو أجرى على النظم لكانت قصة واحدة، ولذهبت تثنية التقريع، وقد وقع في النظم من فك التركيب والترتيب ما يضاهيه في بعض القصص، وهو من المقلوب المقبول لتضمنه نكتًا وفوائد، وقيل: إنه يجوز أن يكون ترتيب نزولها على موسى عليه السلام على حسب تلاوتها بأن يأمرهم الله تعالى بذبح البقرة ثم يقع القتل فيؤمروا بضرب بعضها لكن المشهور خلافه والقصة أنه عمد إخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما أخي أبيهما فقتلاه ليرثا ماله وطرحاه على باب محلهم ثم جاءا يطلبان بدمه فأمر الله تعالى بذلح بقرة وضربه ببعضها ليحيا، ويخبر بقاتله، وقيل: كان القاتل أخا القتيل، وقيل: ابن أخيه ولا وارث له غيره فلما طال عليه عمره قتله ليرثه، وقيل: إنه كان تحت رجل يقال له عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال فقتله ذو قرابة له لينكحها فكان ما كان، وقرأ الجمهور {يأمركم} بضم الراء، وعن أبي عمرو السكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفًا، و{أَن تَذْبَحُواْ} من موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط حرف الجر أي بأن تذبحوا.
{قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} استئناف وقع جوابًا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل: فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الإمتثال أم لا؟ فأجيب بذلك، والاتخاذ كالتصيير، والجعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، و{هُزُوًا} مفعوله الثاني ولكونه مصدرًا لا يصلح أن يكون مفعولًا ثانيًا لأنه خبر المبتدأ في الحقيقة وهو اسم ذات هنا فيقدر مضاف كمكان، أو أهل أو يجعل عنى المهزوء به كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر} [المائدة: 96] أي مصيده أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة كرجل عدل، وقد قالوا ذلك إما بعد أن أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة دون ذكر الإحياء بضربها، وإما بعد أن أمرهم وذكر لهم استبعادًا لما قاله واستخفافًا به كما يدل عليه الاستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق، وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به، ولا يأبى ذلك انقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة، ومن هنا قال بعضهم: إن إجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك دليل على سوء اعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب، فهم قد كفروا وسى عليه السلام. ومن الناس من قال: كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه السلام داعبهم، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء، فأجابوا بما أجابوا، وقيل: استفهموا على سبيل الاسترشاد لا على وجه الانكار والعناد وقرأ عاصم وابن محيصن {يتخذنا} بالياء على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة وإسمعيل عن نافع {هزأ} بالإسكان، وحفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واوًا، والباقون بالضم والهمزة والكل لغات فيه.
{هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} أي من أن أعد في عدادهم، والجهل كما قال الراغب له معان، عدم العلم، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقادًا صحيحًا أو فاسدًا وهذا الأخير هو المراد هنا، وقد نفاه عليه السلام عن نفسه قصدًا إلى نفي ملزومه الذي رمي به وهو الاستهزاء على طريق الكناية وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعًا له، إذ الهزء في مقام الإرشاد كاد يكون كفرًا وما يجري مجراه، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] سائغ شائع وفرق بين المقامين وذكر بعضهم أن الاستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى: {وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} [المؤمنون: 97] لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك، والأول أولى وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام والفرق بين الهزء والمزح ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانًا كما لا يخفى.